العلامة عبد الحميد بن باديس
في شخصيات لها تاريخ, مستجدات
المولد والنشأة
هو عبد الحميد بن محمد المصطفى بن المكي بن محمد كحّول بن الحاج علي النوري بن محمد بن محمد بن عبد
الرحمن بن بركات بن عبد الرحمن بن باديس الصنهاجي. ولد بمدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري، يوم
الجمعة الموافق لـ4 ديسمبر 1889 م على الساعة الرابعة بعد الظهر
كان عبد الحميد الابن الأكبر لوالديه، فأمه هي: السيدة زهيرة بنت محمد بن عبد الجليل بن جلّول من أسرة
مشهورة بقسنطينة لمدة أربعة قرون على الأقل، وعائلة “ابن جلّول من قبيلة “بني معاف” المشهورة في جبال
الأوراس، انتقل أحد أفرادها إلى قسنطينة في عهد الأتراك العثمانيين وهناك تزوج أميرة تركية هي جدة الأسرة
(ابن جلول). ولنسب هذه المرأة العريق، تزوجها محمد بن مصطفى بن باديس (متوفى 1951) والد عبد الحميد.
وكان والده مندوبا ماليا وعضوا في المجلس الأعلى ، ومستشارا بلديا بمدينةقسنطينة وقد احتل
مكانة مرموقة بين جماعة الأشراف وكان من ذوي الفضل والخلق الحميد ومن حفظة القرآن، ويعود إليه الفضل
في إنقاذ سكان منطقة واد الزناتي من الإبادة الجماعية سنة 1945 على إثر حوادث 8 ماي المشهورة، وقد
اشتغل بالإضافة إلى ذلك بالفلاحة والتجارة، وأثرى فيهما.
كان والده بارًا به يحبه ويتوسم فيه النباهة، فقد سهر على تربيته وتوجيهه التوجيه الذي يتلاءم مع فطرته ومع
تطلعات عائلته. عبد الحميد بن باديس نفسه يعترف بفضل والده عليه منذ أن بصر النور وفقد قال ذلك في حفل
ختم تفسير القرآن سنة 1938 م، أمام حشد كبير من المدعوين ثم نشره في مجلة الشهاب: إن الفضل يرجعأولاً
إلى والدي الذي ربّاني تربية صالحة ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها ومشرباً أرده، وبراني
كالسهم وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً، وكفاني كلف الحياة… فلأشكرنه بلساني ولسانكم ما وسعني
الشكر.».
نفيسة والبتول، كان أخوه الزبير محاميا وناشرا صحفيا في الصحيفة الناطقة بالفرنسية “صدى الأهالي” L’Echo
Indigène ما بين 1933م – 1934م. كما تتلمذ الأستاذ عبد الحق على يد أخيه الشيخ عبد الحميد بالجامع الأخضر
وحصل على الشهادة الأهلية في شهر جوان سنة 1940م على يد الشيخ مبارك الميلي بعد وفاة الشيخ بن باديس بحوالي شهرين.
طلبه للعلم
بدأ حياة التعلم في الكتاب القرآني على الشيخ محمد المداسي حتى حفظ القرآن عليه، ختم عبد الحميد بن
باديس حفظ القرآن وهو ابن ثلاث عشرة عاما على يد الشيخ محمد المداسي و من شدة إعجاب الشيخ بجودة
حفظه، وحسن سلوكه، قدمه ليصلي بالناس التراويح في رمضان بالجامع الكبير سنتين أو ثلاثا، وتلقى مبادئ
العلوم العربية والإسلامية بجامع سيدي عبد المؤمن على مشايخ أجلاء من أشهرهم العالم الجليل الشيخ
حمدان الونيسي القسنطيني ابتداء من عام 1903 وهو من أوائل الشيوخ الذين كان لهم أثر طيب في اتجاهه
الديني، ولا ينسى ابن باديس أبداً وصية هذا الشيخ له: “اقرأ العلم للعلم لا للوظيفة”، بل أخذ عليه عهداً ألا
يقرب الوظائف الحكومية عند فرنسا
جامع الزيتونة بتونس
وفي سنة (1327 هـ – 1908 م) التحق الشيخ عبد الحميد بجامع الزيتونة، فأخذ عن جماعة من كبار علمائها
الأجلاّء، وفي طليعتهم زعيم النهضة الفكرية والإصلاحية في الحاضرة التونسية العلاّمة «محمّد النخلي
القيرواني» المتوفى سنة: (1342 هـ – 1923 م)، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور المتوفى سنة: (1393 هـ –
1973 م)، فضلاً عن مربين آخرين من المشايخ الذين كان لهم تأثير في نمو استعداده، وتعهّدوه بالتوجيه
والتكوين، كالبشير صفر، وسعد العياض السطايفي، ومحمّد بن القاضي وغيرهم، وقد سمحت له هذه الفترة
بالاطلاع على العلوم الحديثة وعلى ما يجري في البلدان العربية والإسلامية من إصلاحات دينية وسياسية، في
مصر وفي الشام وغيرهم، ممّا كان لهذا المحيط العلمي والبيئة الاجتماعية، والملأزمات المستمرّة لرجال العلم
والإصلاح الأثر البالغ في تكوين شخصيته ومنهاجه في الحياة.
المدينة المنورة
سافر الإمام الجليل عبد الحميد بن باديس عام 1913 في رحلة طويلة امتدت إلى الحجاز و منه إلى الشام
ومصر، لأداء فريضة الحج وزيارة بعض العواصم للاتصال بعلمائها والاطلاع على ما يجري بها ،معتبرا هذه الرحلة
تتمة للدراسة. وبعد أداء مناسك الحج والعمرة زار المدينة المنورة وأقام بها، وفي أثناء إقامته بها لقي أستاذه
الأول الذي درس عليه في مدينة قسنطينة (فضيلة الشيخ حمدان الونيسي الجزائري) الذي هاجر إلى المدينة
المنورة وأقام بها، وتعرف على بعض العلماء ومن رفقاء أستاذه مثل : الشيخ الجليل حسين أحمد الفيض أبادي
الهندي، والشيخ الجليل الوزير التونسي، وألقى بحضورهم درسا في الحرم النبوي الشريف، فأعجبوا به إعجابا
شديدا مما لفت الأنظار إليه. وفي هذه الأثناء أبدى رغبته في البقاء بالمدينة المنورة إلى جوار أستاذه (فضيلة
الشيخ الجليل الونيسي) فرحب الأستاذ بهذه الفكرة ورغبه فيها، لما يعرف من أوضاع بلده. لكن فضيلة الشيخ
حسين أحمد الهندي لم يوافقه على ذلك، بل نصحه بضرورة العودة إلى وطنه لخدمة بلاده ومحاولة إنقاذها مما
هي فيه، بما توسم فيه من حزم وعزم وصلاح، قائلا له :إرجع إلى وطنك يا بني فهو بحاجة إليك وإلى أمثالك،
فالعلماء هنا كثيرون، يغنون عنك، ولكنهم في وطنك وفي مستوى وطنيتك وعلمك قليلون بسبب الهمجية
الفرنسية التي تحارب الدين واللغة وخدمة الإسلام في بلادك أجدر لك وأنفع لها من بقائك هنا. فاقتنع الشاب
عبد الحميد بن باديس بوجهة نظر هذا الشيخ الجليل، وقبل نصيحته وقرر الرجوع إلى الوطن . وخلال الفترة التي
قضاها في المدينة المنورة تعرف إلى شاب جزائري في مثل سنه عالم وأديب، هو الشيخ العالم الجليل محمد
البشير الإبراهيمي المقيم مع والديه في المدينة المنورة، أقام معه مدة تعارفا فيها وتحاورا معا في شأن الخطة
الإصلاحية التي يجب أن تضبط لعلاج الأوضاع المتردية في الجزائر، واتفقا على خدمة بلادهما متى عادا إليها .
” وقد ذكر الشيخ الجليل الإمام الكبير محمد البشير الإبراهيمي أنهما لم يفترقا مدة إقامة الإمام عبد الحميد بن
باديس بالحجاز، فكانا يقضيان الليل كله يحللان أوضاع الجزائر، و يحددان شروط و وسائل نهضتها “.
زار ابن باديس بعد مغادرته الحجاز بلاد الشام ومصر واجتمع برجال العلم والأدب وأعلام الدعوة السلفية، وزار
الأزهر واتصل بالشيخ بخيت المطيعي حاملاً له رسالة من الشيخ الونيس.
وقد جمع الدكتور عبد العزيز فيلالي أكثر جوانب هذه الفترة من حياة الشيخ بن باديس في كتاب سماه: “وثائق
جدیدة عن جوانب خفیة في حیاة الإمام عبد الحمید بن بادیس الدراسیة” فليراجع للاطلاع أكثر .
العودة إلى الجزائر
عاد ابن باديس إلى الجزائر عام 1913 م واستقر في مدينة قسنطينة، وشرع في العمل التربوي الذي صمم
عليه، فبدأ بدروس للصغار ثم للكبار، وكان المسجد هو المركز الرئيسي لنشاطه، ثم تبلورت لديه فكرة تأسيس
جمعية العلماء المسلمين، واهتماماته كثيرة لا يكتفي أو يقنع بوجهة واحدة، فاتجه إلى الصحافة، وأصدر جريدة
المنتقد عام 1925 م وكان شعارها “الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء” ثم أوقفت بعد العدد الثامن
عشر؛ فأصدر جريدة الشهاب الأسبوعية ، التي بث فيها آراءه في الإصلاح، واستمرت كجريدة حتى عام 1929 م
ثم جرائد البصائر والسنة والشريعة والصراط ، وكان شعارها مقولة الإمام مالك إمام دار الهجرة: “لا يصلح آخر
هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.
فكر الشّيخ ابن باديس، بدءا من سنة 1913 م – خلال إقامته بالمدينة المنورة – في تأسيس جمعيّة، ومع رفيق
دربه الشّيخ الإبراهيميّ وضع الأسس الأولى لها، وبقصد تحضير التأسيس جمعتهما عدة لقاءات منذ عام 1920
م، وتمهيدا لبعثها طلب من الشّيخ الإبراهيميّ عام 1924 م وضع القانون الأساسي لجمعيّة تجمع شمل العلماء
والطلبة وتوحد جهودهم باسم “الإخاء العلمي” يكون مركزها العام بمدينة “قسنطينة”، إلا أن حدوث حوادث
عطلت المشروع.
ثم توالت بعدها الجهود لتأسيس جمعيّة، ومن الإسهامات التي هيأت الجو الفكري لها، دعوات الشّيخ ابن باديس
العلماء في جريدته “الشّهاب” إلى تقديم اقتراحات.. تلتها سنة 1928 م دعوته الطلاب العائدين من جامع
الزيتونة والمشرق العربي لندوة، سطروا خلالها برنامجا يهدف إلى النهوض بالجمعيّة المزمع تأسيسها. وفي
نفس الفترة برز “نادي الترقّي” كمركز ثقافي ذا تأثير وملتقى للنخبة المفكرة في الجزائر، ومن منطلق رسالته
الهادفة طلب الشّيخ ابن باديس من مؤسسيه تكوين لجنة تأسيسية ترأسها “عمر إسماعيل”، تتولى التحضير
لتأسيس الجمعيّة.
وبعد مرور قرن كامل على الاحتلال الفرنسيّ للجزائر (1830 – 1930 م)، واحتفال الفرنسيين بذلك، تضافرت
ظروف وعوامل كثيرة، ساهمت جميعها في إظهار “جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين” التي تأسست يوم
الثلاثاء 05 من ماي 1931 م في اجتماع بنادي الترقّي لاثنان وسبعون من علماء القطر الجزائري ومن شتى
الاتجاهات الدينية والمذهبية. وانتخب الشّيخ ابن باديس رئيساً لها والبشير الإبراهيميّ نائبًا له.
وفاته
توفي عبد الحميد ليلة الثلاثاء الثامن من ربيع الأول سنة 1359 هـ الموافق لـ 16 أبريل 1940 م في مسقط
رأسه بمدينة قسنطينة، التي اتخذها في حياته مركزا لنشاطه التربوي، والإصلاحي، والسياسي، والصحافي.
وفي يوم تشييع جنازته إلى مقرها الأخير خرجت مدينة قسنطينة على بكرة أبيها كلها تودعه الوداع الأخير، كما
حضرت وفود عديدة من مختلف جهات القطر الجزائري للمشاركة في تشيع الجنازة ودفن في مقبرة آل باديس
الخاصة في مدينة قسنطينة.
وقال الشّيخ العربي التبسي في تأبينه “لقد كان الشّيخ عبد الحميد بن باديس في جهاده وأعماله هو الجزائر
كلها، فلتجتهد الجزائر بعد وفاته أن تكون هي الشّيخ عبد الحميد بن باديس”، وقال شاعر الجزائر محمد العيد آل
خليفة:
يا قبر طبت وطاب فيك عبير |
|
هل أنت بالضيف العزيز خبير ؟ |
هـذا (ابن باديس) الإمام المرتضى |
|
(عبد الحميد) إلى حماك يصير |
العالم الفذ الذي لعلومه صِـ |
|
ـيتٌ بأطراف البلاد كبير |
بعث الجزائر بعد طول سباتها |
|
فالشعب فيها بالحياة يصير |
وأرسل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إثر هذا المصاب من منفاه بآفلو إلى الأستاذ أحمد توفيق المدني
رسالة جاء فيها : الأخ الأستاذ أحمد توفيق المدني حفظه الله: أخي: أعتقد أن الراحل أخي العزيز لم يكن لأحد
دون أحد، بل كان كالشمس لجميع الناس، وأعتقد أن فقده لا يحزن قريبا دون بعيد، وأن أوفر الناس حظا من
الأسى لهذا الخطب هم أعرف الناس بقيمة الفقيد وبقيمة الخسارة بفقده للعلم والإسلام، للجزائر وحدها. فلهذا
بعثت أعزيكم على فقد ذلك البحر الذي غاض، بعد أن فاض، ببقاء آثاره في الحياض، وأنهاره في الرياض، كما
يعزى على مغيب الشمس بشفقها وعلى ذبول غضارة الشباب ببقاء رونقها، وإن كانت التعازي تعاليل، لا تطفئ
الغليل، ولكنها على كل حال تحمل بعض الروح من كيد تتلظى شجنا، إلى كبد تتنزى حزنا. وظني في أخي أنه
لو كان يعرف عنواني لكان أول مُعَز لأول معزَّى.
لقد ترك الشّيخ ابن باديس آثرا كبيرا كان حصيلة نضاله، ولله الحمد أن سخر له أحباباً جمعوا تلك الأعمال
ونشروها
وكيبديا
2016-04-15