الرئيسية / مستجدات / مداخلة السيد الرئيس الأول للمحكمة العلياخلال اليوم الدراسي حول تقنيات الطعن بالنقض في المواد المدنية والجزائية

مداخلة السيد الرئيس الأول للمحكمة العلياخلال اليوم الدراسي حول تقنيات الطعن بالنقض في المواد المدنية والجزائية

                                                                                  مداخلة السيد عبد الرشيد طبي الرئيس الأول للمحكمة العليا

 خلال اليوم الدراسي حول تقنيات الطعن بالنقض في المواد المدنية والجزائية
في القانون الجزائري والقانون الفرنسي يوم 31 مارس 2021
بالمدرسة العليا للقضاء – القليعة

بسم الله الرحمن الرحيـــــم
و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين،

          أرحّـــب بكــم مجدّدا في أشغال هذا اليوم الدّراسي الذي يضمّ تركيبة فريـــــــــدة تضمّ قضـــــــــــاة  و محامين و جامعييــــــــــــن و ممارسي القانون و يهدف إلى دراسة تقنيات الطعن بالنقض في المواد المدنية و الجزائية و تحليل مدى فعالية الإجراءات الرامية إلى الفصل في الطعون و إيجاد الآليات التي ترمي لترشيد استعمال الطعن بالنقض.

سيّـداتي، ســــادتي:
إنّ يومنا الدراسي هذا، هو مناسبة مميّزة ستسمح لنا بدون شك، باستعراض الإجراءات القانونية في موضوع تقنيات الطعن بالنقض في كل من المحكمة العليا الجزائرية   ومحكمة النقض الفرنسية.

كما أنه من جهة ثانية، فرصة سانحة لفتح المجال للنقاش حول الممارسة القضائية بين المختصّين و تبادل الخبرات بين الجانبين الجزائري و الفرنسي، بغية  تعميم الفائدة بين المؤسستين القضائيتين اللتين تشكلان قمّة هرم التنظيم القضائي العادي في البلدين، و هذا إيمانا منّـا بأنّ الاستئناس بتجارب الآخرين في صياغة المنظومات القانونية على ضوء الممارسات القضائية الناجعة، سيعطي بلا شكّ، الإضافــة المطلوبة لتحسين هذه التقنيات و منها: تحسين الأداء القضـــائي خدمة للمتقاضي.

إنّ المحكمة العليا، ليست جهة قضائية كباقي الجهات القضائية، فبحكم أنها في أعلى هرم التنظيم القضائي، فإنها تضطلع بأداء دور مهم، يتمثل في الفصل في كل نزاع مطروح عليها و النطق من حيث القانون، لذا ينبغي أن يستجيب نشاطها لمتطلبات النوعيّة أكثر من الاعتبارات المرتبطة بسرعة الفصل و لو أن سرعة الفصل هو أيضا مطلب مشروع لدى المتقاضي.

فالأكيد أنّ الاستجابة لتطلّعات المــواطن في تكفل أفضل بقضاياه منذ الدرجة الأولــى للتقاضي، مرورا باستعمال طرق الطعن المكرّسة قانونا، تفرض على السلطـــــة القضــائيـــة، البحث على أنجع الحلول لضمــان أداء قضــائي متميّـــــز، فعّــــــال و ذو جودة، بما يتناسب  و الدور الهام الذي تلعبه المحاكم العليا في أي بلد في توحيد الاجتهاد القضائي و كذا في  توفير الأمن القضائي.

فالمتقاضي و إن كان يصبو للفصل في قضيته في آجال معقولة، فإن هذا لا ينبغي أن يكون على حساب “الجودة”.

إنّ المحكمة العليا في الجزائر، على غرار نظيراتها في أنظمة قضائية مقارنة، تحاول باستمرار التوفيق بين المعيارين : معيــــــار الوقت، و معيار النوعيّــــــة.

أو ليست هــذه  الأهــداف هي محــور كل الإصــلاحات  التي تحــاول الأنظمــة القضائيــة القيــام بها بشكل مستمر؟
سيّــداتي، ســادتي:

إنّ النقطة الأساسية التي يجب علينا الوقوف عندها بتمعّن و تمحّص في هذا الملتقى، هي أن الطعن بالنقض ليس درجة ثالثة من درجات التقاضي، بل هو طريق من طرق الطعن غير العادية، لذا فإن المحكمة العليا ملزمة ببذل عناية خاصة و يجب أن يكون عملها مبنيا على البحث الذي يتطلب في عدّة قضايا تتسم بالتعقيد متسعا من الوقت، إلى جانب التركيز على مهمتها الأساسية و هي السهر على حسن تطبيق الجهات القضائية للقانون و توحيد تطبيقه.
إلا أن الإشكال، هو اصطــــدام هذه المهــام بالعدد المعتبر للطعــــون  بالنقض – لاسيمـــا في المواد الجزائية – و التراكــــم المتزايد لهــــا على مــــدار سنوات و هو في الحقيقة إشكــــال تعرفه عديد الأنظمة القضــــائية المقــارنة، لذا حاول البعض منهـــــا إيجـــــاد آليـــات كابحة للظاهرة كآلية التصفية (Le filtrage) أو آلية الترخيص المسبق (L’autorisation préalable).

إنّ اللجوء للطعن بالنقض بشكل كبير، ناتج حسب رأينا عن عدّة عوامل أهـــــــمــــــها:
–      عوامل اقتصادية: تتمثل في فرض مصاريف معقولة للطعن بالنقض.
–      معوقات تشريعية: تتمثل في عدم وجود آليات تشريعية لترشيد استعمال الطعن بالنقض.
–      عوامل اجتماعية: تتمثل في ترسّخ ذهنية لدى المتقاضي بوجوب الوصول بالنزاع لغاية المحكمة العليا.
و في انتظار إقرار آليّات تشريعية ترمي لترشيد استعمال الطعن بالنقض، بادرت المحكمة العليا لإيجاد بعض الحلول العملية التي تسمح بالحدّ نسبيا من الطعون التي يكون عدد كبير منها غير مؤسّـس و أحيانا تعسفــيا و يهدف فقط لإطالة أمد النزاع، حتى صارت المحكمة العليا في اعتقاد الكثير من المتقاضين”درجة ثالثة للتقاضي” و كـان أبرز هذه الحلول:

–       تكثيف العمل بالتشكيلات المصغّرة للفصل في الطعون الجزائية:  و تضم هذه التشكيلات خمسة (5) أقسام مقسّمة لفوجين:
–    فوج يضمّ ثلاثة 3 أقسام، مهمتها النظر في الجدّية و عدم الجدّية (مادة 523 ق.إ.ج).
–    فوج يضمّ قسمين (2)، ينظران في طعون النيابة العامة.

و قد سمحت الوصول إلى الفصل في الملفات المسجّلــــــة خلال سنة 2019.

حالات عدم القبول: تتمثل في الفصل في الطعون غير المقبولة استخلصت من بعض المواد الإجرائية (495، 496، 498، 505، 508، 511، 518 مثلاً) و قد أحصينا حوالي 40 حالة و تشكل عددا معتبرا من مجموع الطعون الجزائية التي تصل للمحكمة العليا، بحيث يتم الفصل فيها بموجب أمر صادر عـــــــن  رئيـــس الغرفــــة أو مــن يفوضه لذلك طبقا لقانـــــون الإجراءات الجزائية  و هو ما مكّن خلال الفصل الأول
لهذه السنة من فرز أكثر مــــــن 5636 قضية تم الفصل في 1164 منها.

–    تنظيم معالجة طلبات الاستدراك: من خلال إنشاء هيئة مصغّرة تتولّى الفصل في مدى قابلية هذه الطلبات للتسجيل من عدمها، قصد عقلنة اللجوء للاستدراك الذي لا يكون مقبولا إلا في حالات حددها الاجتهاد القضائي بصرامة.
و أقرها مكتب المحكمة العليا و هي:
–   إغفال الإجابة على وجه أو عدة أوجه بني عليها الطعن و كان بالإمكان لو وقعت الإجابة عليها أن ينقض القرار المطعون فيه.
–   وجود تناقض بين منطوق القرار و أسبابه .
–   وجود خطأ مرفقي مهما كان نوعه يؤثر على سلامة القرار الصادر عن المحكمة العليا.

و قد عرف هذا الإجــراء انخراط هيئــة الدفاع أيضا، لما لاحظه الجميع من غلوّ في استعمــال هذه الممارسة التي تتيح للمحكمــة العليا إعـادة النظــر في الطعون المـرفـوضة في المـوضـوع، علمـا أن التشريع الجزائري يفتقد إلى آلية تسمح بمراجعة أحكــام و قرارات المحكمــة العليا، مما جعلنا نبادر إلى تقديم هذه الأخيرة تقديم اقتراحات لوزارة العدل قصد تنظيم التشريعي لهذه الممارسة القضائية في التعديلات القانونية القادمة.

–   ضمان توحيد الاجتهاد القضائي و نشـــره:
و من المساعي التي قامت بها المحكمة العليا في نشر قراراتها لتكون في متناول الجميــــــــع من قضـــاة و محاميـن و أســرة جامعيّـــة و حقوقيين، إلى جانب النشر الدوري للمجلة القضائية و النشر على الموقع الرسمي للمحكمة العليا، هي إصدار دليل بحث في مجلـــة المحكمة العليا يتضمن جميــــع مبــــادئ القرارات المنشــــورة في المجلــــة منــــذ عــــددها الأول فـــي 1989 إلــــــى غايـــــة الإصدار الأخير العدد (2) لسنة 2019 مرتبة ترتيبا أبجديا حسب المواضيع و نعتقــد أن هذا الدليل يشكل أداة لتحليل قرارات المحكمة العليا في عديد المواضيع المدنية و الجزائية و دراسة مواقفها في تناولها لمختلف المسائل القانونية المعروضة عليها.

و إذا كان توحيد الاجتهاد القضائي يعدّ تجسيدا للمهام الدستورية للمحكمة العليا طبقا لنص المادة 179 من دستور نوفمبر2020، فإن الواقع أثبت وجود تباين بين بعض القرارات الصادرة عن مختلف أقسامها في بعض المواضيع.

و لتدارك ذلك، عكفت المحكمة العليا على حصر و دراسة مختلف المواضيع التي كانت محل خلاف بين الأقسام قصد توحيد الاجتهاد القضائي بشأنها، بحيث تم حصر حوالي 130 موضوع، كما تم استحداث منهجية عمل للتصدي لهذه الاختلالات و قد تم الفصل بهذه المنهجية في ثمان (8) مواضيع جزائية كثيرة التردد أهمها:
–     تقادم الدعوى العمومية في حالة صدور حكم غيابي ضد المتهم،
–     قيود تحريك الدعوى العمومية في قضايا جريمة إصدار شيك بدون رصيد،
–     قضايا حيازة الأدوية غير المصنفة ضمن المؤثرات عقليا،
–     الكلمة الأخيرة للمتهم،
–    الدعوى الجبائية في جنحة مخالفة التشريع و التنظيم الخاصين بالصرف،
–     التقادم في جنح التزوير و استعمال المزور،

أما بالنسبة للمنازعات العقارية فقد كرست المحكمة العليا الحماية القانونية للملكية من خلال الفصل في حجية الدفتر العقاري المعد بناءا على عملية مسح الأراضي في مواجهة دعوى الحيازة المؤدية إلى التقادم المكسب بقرارها المرجعي الذي أصدرته الغرفة العقارية في 14 جانفي 2021 و ذلك بهدف توفير الحماية القانونية للمستثمرين و ضمان الأمن القانوني للدفع بعملية التنمية الاقتصادية و تشجيع الاستثمار الوطني و الأجنبي.

سيّــــداتي، سادتـــي :
مواصلة للجهود المبذولة من طرف المحكمة العليا لإيجاد آليات عملية للفصل في الطعون بالنقض في ظل غياب الآليات التشريعية في الوقت الراهن، فقد تم اقتراح نظام يهدف إلى رفع مستوى الأداء القضائي و تعزيز كفاءة الإطار البشري للمحكمة العليا من خلال تأسيس:
–    نظام القاضي المساعد: و هو ما يسمح بإلحاق قضاة من مختلف الجهات القضائية الذين لا تتوفر لديهم سنوات الخدمة الكافية للعمل كمستشارين بالمحكمة العليا، بشرط أن يكونوا مصنفين في الرتبة الأولى و يتم تعيينهم على مستوى المحكمة العليا لمدة محددة قابلة للتجديد و تتمثل مهمتهم في توجيه الطعون و تصنيفها لتكوين مجموعات متجانسة و يساعدون رئيس الغرفة في تصنيفها و توزيعها بحسب تخصص الأقسام.
و هذا النظام في اعتقادنا، يسمح بتكوين كاف للقضاة قبل تعيينهم في وظيفة مستشارين بالمحكمة العليا.

–     نظام التعاقـــــــــد: و يعتمد على الاستعانة بقضاة المحكمة العليا المحالين على التقاعد الذين لا زالوا يتمتعون بصحّة جيّـدة و مشهود لهم بالكفاءة و النزاهة، بحيث يتم التعاقد معهم  لمدة محددة بعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء.
و ذلك بمناسبة مناقشة القانون الأساسي للقضاء، مع العلم أنّ هذه المقترحات رفعت إلى الوزارة منذ أكثر من عام، قصد طرحها أمام المجلس الأعلى للقضاء للمناقشة و الإثراء.
كانت هذه سيداتي الفضليات، سادتي الأفاضل، لمحة سريعة على أهم الآليات التي اعتمدتها المحكمة العليا لتسيير الطعون بالنقض و سيقوم الزملاء المتدخلون من الجانب الجزائري بإثراء الموضوع من خلال مداخلاتهم التي سيتفضلون بإلقائها خلال هذا اليوم الدراسي.

 و في الختـام،
آمل أن يسمح ملتقانا هذا بالخروج بنتائج إيجابية بالشكل الذي نصبو إليه جميعا.
أتمنى للجميع مشاركة طيبة و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته.

عن المحامي