الرئيسية / مساهمات ثقافية / الدفع بعدم الدستورية ودوره في حماية الحقوق والحريات

الدفع بعدم الدستورية ودوره في حماية الحقوق والحريات

مداخلة من إعداد المستشار الهادي لوعيل ،عضوهيئة الدفع بعدم الدستورية
تحت إشراف السيد الطاهر ماموني ، الرئيس الأول للمحكمة العليا

المقدمـــة
يعتبر الدفع بعدم الدستورية (L’exception d’inconstitutionnalité) آلية جديدة في النظام القانوني الجزائري للرقابة على دستورية القوانين ، و قد وردت لأول مرة في دستور 06 مارس 2016 في المادة 188 منه التي نصت في فقرتها الأولى على ما يلي: يمكن إخطار المجلس الدستوري بالدفع بعدم الدستورية بناء على إحالة من المحكمة العليا أو مجلس الدولة ،عندما يدعي أحد الأطراف في المحاكمة أمام جهة قضائية أن الحكم التشريعي الذي يتوقف عليه مآل النزاع ينتهك الحقوق و الحريات التي يضمنها الدستور…..)) .و يعد هذا النص بمثابة قفزة نوعية  لإرساء دولة القانون و تكريس مبدأ الشرعية الذي يعد أحد دعائم الديمقراطية و مبدأ سمو الدستور باعتباره “فوق الجميع ، وهو القانون الأساسي الذي يضمن الحقوق و الحريات الفردية والجماعية و يحمي حرية إختيار الشعب ، و يضفي المشروعية على ممارسة السلطات.”.(ديباجة دستور 30 ديسمبر 2020 المصادق عليه في استفتاء 01 نوفمبر 2020).و بهذا الإتجاه أصبح اللجوء إلى العدالة الدستورية مجالا مفتوحا للمواطنين المتقاضين أيضا للولوج إلى المجلس الدستوري (المحكمة الدستورية حاليا) و ذلك عن طريق الدفع بعدم الدستورية.
و يجب الإشارة بادئ ذي بدء  إلى أن الحكم بصفة موضوعية على الدورالذي يلعبه الدفع بعدم الدستورية في حماية الحقوق و الحريات منذ بدأ العمل به في بلادنا ، يستوجب بالضرورة أن تضبط  الحصيلة الكاملة لاستعمال هذه الآلية و ذلك لتقييمها، و أن هذا التقييم  يثير سؤالين أصليين :
أولا: من  يقوم بهذا التقييم ؟ ثانيا : ماهي معايير التقييم ؟ و أسئلة فرعية تتعلق بمدى اضطلاع الجهات القضائية و المحكمة الدستورية بالدور المنوط بهما و بمدى مساهمة كل منهما في تطهير المنظومة القانونية من التشريعات التي تحتوي على أحكام فيها  مساس بالحقوق و الحريات التي يضمنها الدستور.
و تهدف مداخلتنا في هذا الملتقى إلى توضيح ماهية الدفع بعدم الدستورية و الدور الذي يلعبه في حماية الحقوق و الحريات و للإجابة على هذه الأسئلة قسمنا المداخلة إلى مبحثين ، تناولنا في الأول ماهية الدفع بعدم الدستورية في  النظام القانوني الجزائري و خصصنا الثاني للدور الذي يلعبه الدفع بعدم الدستورية في حماية الحقوق و الحريات التي يضمنها الدستور.

المبحث الأول: ماهية الدفع بعدم الدستورية

إن الرقابة على دستورية القوانين في النظام الدستوري الجزائري تتخذ صورتين : الأولى هي الرقابة القبلية و تمارس قبل إصدار القوانين و الثانية رقابة بعدية تمارس بعد إصدارها عن طريق سلطة قضائية وما يهمنا في هذه المداخلة هي الرقابة اللاحقة و التي تمارس عن طريق الدفع بعدم الدستورية و الذي لم يعرفه الدستور الجزائري و لا القانون العضوي رقم 18-16  غير أنه يقصد بالدفوع بمعناها العام في اصطلاح القانون الإجرائي هي جميع الوسائل التي يجوز للخصم الإستعانة بها للإجابة على دعوى خصمه بقصد تفادي الحكم لخصمه بما يدعيه، أو تأخير هذا الحكم سواء أكانت هذه الوسائل موجهة إلى الخصومة أو بعض إجراءاتها،أو موجهة إلى أصل الحق المدعى به، أو إلى سلطة الخصم في استعمال دعواه منكرا إياها.فالدفع بهذا المعنى حق أساسي من حقوق الدفاع ، ووسيلة المدعى عليه للرد على المدعي تمكنه  من الاعتراض على دعواه أو على إجراءاتها. و  يتجه أغلبية الفقه الدستوري إلى تعريف الدفع بعدم الدستورية بأنه : هو منازعة أحد أطراف خصومة قضائية نص تشريعي ساري المفعول ينتهك الحقوق و الحريات التي يضمنها الدستور. ))  ، و هو ما سنتناوله في هذا المبحث بتقسيمه إلى فرعين نتطرق في الفرع الأول للشروط الشكلية و الإجرائية للدفع و نخصص الفرع الثاني للشروط الموضوعية .

الفرع الأول: الشروط الشكلية و الإجرائية للدفع بعدم الدستورية
أولا: الشروط الشكلية للدفع بعدم الدستورية:
أ – أن يثار الدفع بعدم الدستورية بمناسبة منازعة معروضة أمام جهة قضائية خاضعة للنظام القضائي العادي أو النظام القضائي الإداري:
و حسب القانون العضوي رقم 05-11 المؤرخ في 17/07/2005 المتضمن التنظيم القضائي فإن الجهات القضائية التي تخضع للنظام القضائي العادي هي المحكمة العليا و المجالس القضائية و المحاكم والجهات القضائية المتخصصة التي تشمل محكمة الجنايات و المحكمة العسكرية أما الجهات القضائية التي تخضع  للنظام القضائي الإداري هي مجلس الدولة و المحاكم الإدارية.
و من هذا المنظور فلا يجوز أن يثار الدفع أمام محكمة التنازع ، أو أمام جهات التحكيم و كذا أمام لجان المنازعات أو مجالس التأديب ،  كما لا يقبل إذا تمت إثارته حتى أمام المحكمة الدستورية في حالة فصلها في الطعون المتعلقة بالإنتخابات البرلمانية و انتخاب رئيس الجمهورية و صحة عملية الإستفتاء.
ب- أن يثار الدفع بعد الدستورية من طرف أحد أطراف الدعوى : و استعمال المشرع لعبارة أطراف الدعوى  الذي له مدلول أوسع من عبارة الخصوم ، سواء كان  مدعيا أو مدعي عليه أو مدخلا  أو متدخلا في الخصام و  من الغير خارج الخصام المعترض على الحكم أو القرار الصادر في النزاع و من المتهم و المدعي المدني و المسؤول المدني و سواء كان الطرف شخصا طبيعيا أم شخصا معنويا، مواطنا أوأجنبيا. أما النيابة العامة إذا كانت طرف في الدعوى فهناك من ذهب إلى جواز إثارتها للدفع و هناك من رأى عكس ذلك ، إلا أن مشروع القانون العضوي المحدد لإجراءات و كيفيات الإخطار و الإحالة امام المحكمة الدستورية قد استثنى ممثل النيابة العامة و محافظ الدولة من إثارة الدفع بعدم الدستورية على غرار القاضي الذي لا يجوز له أن يثير الدفع بعدم الدستورية تلقائيا.
ج – يجب أن تتوفر في الطرف الذي يثير الدفع بعدم الدستورية الصفة و المصلحة و ذلك طبقا للقواعد العامة .
ثانيا : الشروط الإجرائية:
يجوز أن يثار الدفع بعدم الدستورية في أية مرحلة كانت عليها الدعوى و لو لأول مرة أمام  جهة الإستئناف أو الطعن بالنقض  طبقا للشروط الإجرائية التالية:
أ‌-    يجب  أن يقدم الدفع بمذكرة مكتوبة مسببة و منفصلة عن عرائض و مذكرات الدعوى الأصلية ، فلا يجوز أن يثار الدفع ضمن عريضة إفتتاح الدعوى أو عريضة الإستئناف كما لا يجوز أن يثار شفاهة في الجلسة.
ب‌-    يجب أن تكون العريضة مسببة  بمعنى أن تكون أوجه الدفع المثار مبينة للنص التشريعي المعترض عليه و أوجه انتهاكه للحقوق و الحريات التي يضمنها الدستور.
ج-  إذا كانت القضية معروضة على مستوى المحكمة بالأقسام المدنية و الجزائية و قسم الأحداث أو كانت الدعوى معروضة على مستوى المجلس القضائي أو المحكمة الإدارية  فإن الدفع يثار أمام القاضي أو الغرفة المعروض عليها ملف الدعوى.أما إذا كانت معروضة على قاضي التحقيق أو قاضي الأحداث فإن الدفع يثار أمام هذا القاضي و يحال إلى غرفة الإتهام  لتنظر فيه. و لا يجوز أن يثار أمام محكمة الجنايات الإبتدائية و إنما يثار أمام محكمة الجنايات الإستئنافية ، مع الملاحظة أن مشروع القانون العضوي المحدد لإجراءات و كيفيات الإخطار و الإحالة امام المحكمة الدستورية قد أجاز إثارة الدفع حتى أمام محكمة الجنايات الإبتدائية.
الفرع الثاني : الشروط الموضوعية للدفع :
تنص المادة 8 من القانون العضوي رقم 18-16 على ثلاثة شروط موضوعية يجب توافرها في الدفع بعدم الدستورية و يمكن أن نضيف إليها شرطين آخرين مستنبطين من نص المادة 2 من نفس القانون و هي :
أ – أن ينصب الدفع بعدم الدستورية على نص تشريعي.و طبقا للدستور الجديد فإنه يمكن أن ينصب الدفع على نص تنظيمي.
ب –  أن يكون النص التشريعي أو التنظيمي المطعون فيه أو المعترض عليه يتضمن انتهاكا لحقوق أو حريات يضمنها الدستور خلافا للرقابة القبلية التي تمارسها المحكمة الدستورية  على دستورية القوانين والتي تتعلق بالبحث عن مدى مطابقة النصوص لجميع أحكام الدستور بما في ذلك ديباجته.
 ج – أن يتوقف مآل النزاع على الحكم التشريعي أو التنظيمي المعترض عليه أو أن يكون هذا النص أساس المتابعة: و النص التشريعي أو التنظيمي يبقى محل للدفع حتى و لو تم إلغاؤه لاحقا ، طالما أنه يطبق على النزاع المعروض على القاضي.
د-ألا يكون الحكم التشريعي أو التنظيمي   قد صدر بشأنه رأي بمطابقته للدستور من طرف المحكمة الدستورية ( المجلس الدستوري سابقا) و هو ما يعرف بقرينة الدستورية و معناه انه لا  يقبل الدفع بعدم الدستورية سبق للمحكمة الدستورية أن أبدت رأيها في النص المذكور المعترض عليه سواء عن طريق الرقابة السابقة أو عن طريق الفصل في الدفع بعدم الدستورية  كان قد أحيل أمامها من طرف المحكمة العليا أو مجلس الدولة بمناسبة محاكمة أخرى.
غير انه في حالة تغير الظروف عن تلك التي صدر فيها الرأي ، فإن الدفع يكون مقبولا ويتحقق تغير الظروف إما بتعديل النص الدستوري أو استحداث نص دستوري يقر حق معين و إما بتعديل النص التشريعي المعترض عليه بشكل يصير فيه غير مطابق للدستور.
هـ – أن يتسم الدفع بعدم الدستورية بالجدية: و تقدير جدية الدفع متروك للمحكمة العليا و مجلس الدولة ابتداء و المحكمة الدستورية انتهاءً في حالة إحالة الدفع عليه.
و الجدير بالإشار أن القضاء المقارن ذهب  إلى اعتبار  الدفع بعدم الدستورية غير جدي إذا تخلف أحد الشروط الموضوعية لقبوله كأن لا يتعلق الدفع بالحقوق والحريات المضمونة دستوريا أو أن يكون النص التنازع فيه سبق أن أبدى المجلس الدستوري أو المحكمة الدستورية رأي فيه .
بينما يذهب بعض الفقه المقارن إلى اعتبار أن الدفع يكون جديا إذا وقع للقاضي شك أواحتمال أن القانون المتنازع فيه ينتهك أحد الحقوق و الحريات التي يضمنها الدستور.فيما يرى البعض الآخر إلى أن الجدية تستمد من الدفوع الكيدية التي يظهر منها بوضوح أنها تستهدف تعطيل الدعوى أو تتعلق  بنص لا ينطبق  على الواقعة  موضوع الدعوى.  
و يتحقق شرط الجدية بتوافر شرطين :
الشرط الأول : ويعد أصلا الشرط الأهم – و يتمثل في معرفة ما إذا كانت القضية الأصلية تتضمن فعلا مسألة دستورية يتوقف عليها فضّ النزاع ، فإذا كان من الوارد جدا أن هناك رغبة في إثارة المسألة الدستورية مع انها إما غير موجودة أصلا أو أو أنها وهمية فيتحول الدفع إلى وسيلة الهدف منها المماطلة ، غايتها التأخير في إجراءات سير الدعوى.لذلك فإنه من الضروري أن تكون مسألة الدستورية مطروحة بشكل دقيق و هو ما يسمح بإستبعاد الدفوع التي ترمي فعلا إلى عرقلة سير الدعوى.
الشرط الثاني : يتمثل في التساؤل عما إذا كان الحكم الدستوري المحتج به من شأنه أن يثير  شكوكا حول طريقة الفصل في النزاع. و يعمل القاضي إلى إجراء مواجهة بين النص الدستوري المثار والحكم التشريعي أو التنظيمي المتنازع فيه، فيفترض هذا الشرط أن تكون المسألة المطروحة مؤسسة على مبررات و ليست مجرد وسيلة لعرقلة حسن سير الدعوى.
 و يعتبر شرط الجدية هو المعيار الذي يرجح  بين من يعارض نظرية التصفية (Le filtrage ) ومن يؤيدها.فكلما تشدد القضاء في شرط الجدية نجد من يعارض فكرة التصفية إلى إلغاء الرقابة القضائية على الدفع بعدم الدستورية و فتح الباب أمام المواطنين للجوء مباشرة أمام الجهة المختصة بالفصل في مسألة عدم الدستورية لتقديم الطلب أمامها ، لذلك فإنهم يطالبون من القضاء أن يكون مرنا في مسألة الجدية.
و نستخلص من كل ما سبق مايلي:
1-    أن الدفع بعدم الدستورية هو آداة غير مباشرة للولوج إلى العدالة الدستورية.
2-    أن الدفع بعدم الدستورية لا يثار إلا بمناسبة خصومة أمام القضاء.
3-    أن أطراف الخصومة فقط هم أصحاب الحق في إثارة الدفع دون القاضي أو النيابة العامة أو محافظ الدولة حسب مشروع القانون العضوي المحدد لإجراءات الإخطار و الإحالة المتبعة امام المحكمة الدستورية.
4-    يمكن إثارة الدفع في أي مرحلة كانت عليها الدعوى و لو لأول مرة أمام المحكمة العليا.

المبحث الثاني : دور الدفع بعدم الدستورية في حماية الحقوق و الحريات
إن الدفع بعدم الدستورية يحقق من حيث المبدأ جملة من الأهداف تتمثل في :
–    تحقيق التكريس الفعلي للأمن القانوني المنصوص في الفقرة الأخيرة من المادة 34 من الدستور.
–    تطهير المنظومة القانونية من التشريعات و التنظيمات غير الدستورية.
–    تأمين سمو الدستور على سائر القوانين و التنظيمات.
–    و أخيرا منح المواطن المتقاضي حق جديد يمكنه من الدفاع على حقوقه المضمونة دستوريا.
إن تقييم الدور الذي يلعبه الدفع بعدم الدستورية في حماية الحقوق و الحريات يقتضي حسب رأينا مرور على الأقل عقدا من الزمن ،لكن و بعد انقضاء مدة تجاوز ثلاث سنوات من تقرير آلية الدفع بعدم الدستورية في النظام القانوني ببلادنا ارتأينا أن نوفيكم ببعض الإحصائيات حول قضايا الدفع بعدم الدستورية التي سجلت بالمحكمة العليا خلال الفترة الممتدة من تاريخ 07 مارس 2019 (تاريخ بدأ سريان القانون رقم 18- 16 ) إلى تاريخ 15 ماي  2022  كالتالي :
من حيث عدد الدفوع :
مجموع الدفوع المسجلة  أمام المحكمة العليا :66 دفع
مجموع الدفوع المفصول فيها من المحكمة العليا :66 قرار
مجموع الدفوع المفصول فيها بالإحالة على المجلس الدستوري و المحكمة الدستورية: 37 قرار بالإحالة.
مجموع الدفوع المفصول فيها بعدم الإحالة:قرار 28 بعدم الإحالة .
مجموع الدفوع التي فصل فيها بعدم قبول الدفع : 01 قرار واحد
مجموع الدفوع التي أثيرت أمام المحكمة العليا بمناسبة الطعن بالنقض:12 دفع
مجموع الدفوع التي تم إرسالها من الجهات القضائية:54 إرسال دفع.

من حيث نوعية الدفوع:
عدد الدفوع المتعلقة بالإجراءات: 62 مادة إجرائية واردة إما في قانون الإجراءات المدنية والإدارية او قانون الإجراءات الجزائية و قانون العمل و القانون المتعلق بتسوية المنازعات العمل.وتصب أغلبية هذه دفوع في إطار مبدأ التقاضي على درجتين و المحاكمة العادلة.
عدد الدفوع المتعلقة بالموضوع: 06 مواد موضوعية متنوعة منها ما هي واردة في قانون الجمارك و أخرى في قانون العقوبات بالإضافة إلى مواد واردة في قانوني القضاء العسكري و المحاماة . و تصب هذه الدفوع بدورها في إطار مبدئي الشرعية و المساواة.
أما باقي الدفوع الأخرى فهي متنوعة منها ما تعلق بعدم دستورية نصين تنظيميين وأخرى تتعلق بمسائل عامة.
من خلال هذه الإحصائيات المسجلة على مستوى المحكمة العليا ، و في غياب ما ورد من دفوع أمام مجلس الدولة ، يمكن القول أن عدد الدفوع و نوعية المنازعات المسجلة خلال الفترة المذكورة ضئيل جدا بالنظر إلى عدد و نوعية المنازعات التي عرضت على القضاء الجزائري خلال نفس الفترة.ويصعب تحديد الأسباب التي أفضت إلى هذه الوضعية حاليا ، الأمر الذي يستوجب القيام بدراسات إستشرافية للبحث و تحديد العوامل التي حالت دون تحقيق الأهداف المرجوة من إقرار هذا الحق الدستوري من طرف الهيئات المكلفة بهذه المهام و ذلك مع العاملين في مجال القانون من محامين ومصالح المنازعات للهيئات و الإدارات العمومية و تنظيمات المجتمع المدني التي تنشط في مجال حقوق الإنسان و المواطن ، لحثهم على استغلال آلية الدفع بعدم الدستورية و استعمالها بشكل مكثف  بالنسبة لمختلف فروع القانون و أمام جميع الهيئات القضائية عادية كانت أم إدارية.
إن تقرير الدفع بعدم الدستورية و اقتصار استعماله إلا من طرف المتقاضين بمناسبة المنازعة المعروضة على القضاء يشكل قصور في تحقيق  حماية  الحقوق و الحريات  لباقي المواطنين ، و هو الإنتقاد الذي جاء به أنصار الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية التي تفسح المجال لجميع المواطنين اللجوء مباشرة إما أمام الجهات القضائية  أو أمام المحكمة الدستورية بحسب النمط المتبع بخصوص الجهة المختصة بنظر دعوى عدم الدستورية.و إلى جانب هذا الإنتقاد فثمة حدود و إشكالات تعترض تحقيق الدفع بعدم الدستورية لحماية الحقوق و الحريات التي يكفلها الدستور نذكر منها مايلي:

من حيث الآجال:
تضمن دستور 2016 الذي أنشأ آلية الدفع بعدم الدستورية على حكم دستوري في مادته 215 بإعطاء مدة ثلاث سنوات كحد أدنى لبدأ سريان آلية الدفع بعدم الدستورية  و بالفعل صدر القانون العضوي المتضمن كيفية تطبيق هذه الآلية في الجريدة الرسمية بتاريخ 05/09/2018 و حدد تاريخ سريان مفعوله إبتداءا من 07 مارس 2019.و ان اول قرار فصلت فيه المحكمة العليا بالإحالة أمام المجلس الدستوري كان في 17/07/2019 و ان المجلس الدستوري فصل في هذه الإحالة بتاريخ  20/11/2019 بخصوص عدم دستورية نص المادة 416 من قانون الإجراءات الجزائية جزئيا. كما تضمن دستور 30/12/2020 تحديد أجل  أقصاه سنة لتعويض المؤسسات و الهيئات التي طرأ عليها التعديل أو الإلغاء ، لكن القوانين التي تستوجب التعديل أو الإلغاء لم يحدد لها أجل معينا و اكتفى بالنص على أن تعد هذه القوانين الجديد او التعديلات في أجل معقول و السؤال الذي يطرح في هذا الخصوص هل أن القوانين  العضوية القديمة الصادرة في ظل الدستور 2016  المطبقة أمام الجهات القضائية والمحكمة الدستورية حاليا تبقى سارية المفعول بعد تنصيب هذه الهيئة و صدور التنظيم الداخلي لهياكلها و القواعد الخاصة بتنظيمها ؟ إذ و على سبيل الإعلام أن المحكمة العليا تلقت ملف من المحكمة الإبتدائية يتضمن قبول إرسال دفع بعدم الدستورية يتعلق بمراسيم تنفيذية و أن المحكمة العليا قضت برفض الإحالة بحجة أن القانون العضوي  المتعلق بتطبيق آلية الدفع بعدم الدستورية ضد النصوص التنيظيمية لم يصدر بعد(قرار المحكمة العليا بتاريخ 26/04/2021 تحت رقم5).كماأنه يطرح التساؤل  المتمثل في كون القرارات التي تصدر عن المحكمة العليا و المتعلقة بالدفع بعدم الدستورية تفتح الباب للإعتراض على دستوريتها بحجة أنها صدرت في ظل هئيات منصبة وفقا للدستور الجديد لكنها طبقا لقوانين لم يقع تعديلها أو إلغاؤها كما جاء في الدستور؟

ثانيا: من حيث  الإجراءات المطبقة على الدفع بعدم الدستورية:

إن القانون العضوي رقم 18-16 المحدد لشروط و كيفيات تطبيق الدفع بعدم الدستورية و كذا مشروع القانون العضوي الذي يحدد إجراء و كيفيات الإخطار و الإحالة المتبعة أمام المحكمة الدستورية نصا على بعض الأحكام الإجرائية التي تطبق على الدفع بعدم الدستورية  سواء أمام الجهات القضائية الدنيا أو المحكمة العليا أو مجلس الدولة و كذلك على الإجراءات المطبقة على مستوى المحكمة الدستورية .و إذا كانت هذه الأحكام الإجرائية التي تطبق على مستوى المحكمة الدستورية لا تثير إشكالات إلا فيما يتعلق بالنص بشكل صريح لا يحمل أي تأويل أو خلاف بوجوب أن تكون المرافعات أمام المحكمة الدستورية بواسطة محامي و بمدى اشتراط أن يكون هذا المحامي الذي يمثل الأطراف و الحكومة أمام المحكمة الدستورية مقبولا أمام المحكمة العليا أو مجلس الدولة أم لا و كذا إجراءات التدخل في الدعوى .إلا أن الإشكال الذي يطرح بحدة هو تطبيق الإجراءات أمام الجهات القضائية الدنيا و المحكمة العليا أو مجلس الدولة.فحسب القانون العضوي رقم 18-16 و مشروع القانون العضوي المنوه  عنهما سلفا أن الإجراءات تحال على قانون الإجراءات المدنية و الإدارية و قانون الإجراءات الجزائية .
إننا نرى بأن هذه الإحالة من جهة ، لا تتلاءم مع خصوصية الدفع بعدم الدستورية ،إذ هو يختلف اختلافا جوهريا عن الدفوع التي وردت في قانوني الإجراءات موضوعية كانت او شكلية أو بعدم القبول أو نحو ذلك  ، مما يجعل الإحالة تثير الكثير  من التساؤلات منها  المرحلة و الوقت الذي يتعين إثارته فيها، فهل يشترط أو لا يشترط بأن يثار قبل أي دفع أو دفاع في الموضوع و حول ما إذا يتعين أن يفصل فيه بحكم أو قرار مستقل أم يمكن أن يفصل بحكم أو قرار وحيد في الدفع أو الموضوع معا ، و فيما إذا كان يقدم الدفع مباشرة في الجلسة أم يسجل على مستوى أمانة الضبط و ما يستلزم ذلك من  دفع الرسوم وماهي قيمة هذه الرسوم ، و كذا إجراءات تبليغ النيابة العامة بالدفع في الحالات لا تكون فيها لا طرفا أصليا و لا منظم في الدعاوى المدنية ، إلى غير ذلك من التساؤلات التي طرحت على مستوى الجهات القضائية الدنيا و المحكمة العليا بمناسبة تطبيق آلية الدفع .و من جهة أخرى نتساءل عن مدى دستورية هذه الإحالة بالنظر إلى أن المشرع الدستوري نص في المادة 196 على ان قانون عضوي هو الذي يحدد إجراءات إحالة الدفع بعدم الدستورية ، لكن القانون العضوي أحال بدوره البعض من هذه الإجراءات إلى القانون العادي. لذلك نرى أنه كان يتعين أن توحد جميع الإجراءات بما في ذلك تلك التي تطبق على مستوى الجهات القضائية و المحكمة العليا أو مجلس الدولة في القانون العضوي المحدد لآلية الدفع بعدم الدستورية.
ثالثا: من حيث بعض الإجراءت المقيدة لاستعمال الدفع بعدم الدستورية على مستوى القضاء:
إذا  اعتبرنا أن حق المتقاضي في إثارة الدفع بعدم الدستورية كفيل لوحده- بغض النظر عن الإعتبارات الأخرى-  في لعب هذه الآلية دور مهم في حماية الحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، فإن فرض بعض الإجراءات والقيود التي تحول دون إثارة الدفع أمام القضاء بالرغم من توافر شروطه الموضوعية  قد لا يلبي الغاية في لعب الدفع دوره المذكور.
و إذا كانت حماية الحقوق و الحريات هي من الإلتزامات المنوطة بالدولة بجميع سلطاتها ، فإن الدستور جعل مهمة حماية الحقوق و الحريات   للسلطة القضائية إذ نصت المادة 164 منه على أنه: يحمي القضاء المجتمع و حريات و حقوق المواطنين طبقا للدستور.لذلك  نرى أن منع القاضي من إثارة الدفع بعدم الدستورية تلقائيا بمناسبة نظره في القضية المعروضة عليه يشكل خرقا لما قرره الدستور في المادة أعلاه.

الخاتمة  :
إن دور الدفع بعدم الدستورية في حماية الحقوق و الحريات يشكل أحد ركائز المؤسسة لدولة الحق والقانون و تكريسها في أرض الواقع ، كما يعد وظيفة للرقابة الدستورية المسندة للمحكمة الدستورية بموجب المواد من 185إلى 198، غير أن التطبيقات القضائية أفرزت ضرورة وضع ضوابط إجرائية خاصة بالدفع بعدم الدستورية في شكل قانون إجرائي خاص تفاديا للدخول  في مرحلة الفراغ و انسداد الإجراءات و ذلك باعتبار أن وظيفة المحكمة الدستورية فيما يتعلق بتفسير النصوص الدستورية وردت في المادة 192 – 2  من دستور 2020 و حصرت جهات إخطارها بذلك  في كل من رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الأمة أو رئيس المجلس الشعبي الوطني أو من الوزير الأول أو من رئيس الحكومة حسب الحالة دون تمديد هذا الإجراء إلى الجهات القضائية المكلفة بحماية المجتمع و حقوق المواطنين طبقا للدستور. ولا يفوتنا في هذا السياق أن نذكر بأن ما أفرزته المادتين 224 و225 من نفس الدستور بخصوص الهيئات و المؤسسات التي تم تنصيبها في الآجال المحددة في غياب استحداث النصوص القانونية و التنظيمية اللازمة لسيرها وعملها وأنظمتها الداخلية يشكل عائقا حقيقيا يحول دون مباشرة هذه الهيئات و المؤسسات للمهام المنوطة  بها  دستوريا ، علما بأن الدفع بعدم الدستورية يندرج ضمن إرساء قواعد الأمن القانوني المكرس لحماية الحقوق والحريات الملزمة لجميع السلطات و الهيئات العمومية.

شكرا على كرم الإصغاء
– والله ولي التوفيق-

المصدر موقع المحكمة العليا

عن المحامي